--------------------------------------------------------------------------------
جميل أن تتمسك المبادرة العربية للسلام بحق العودة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل الأرض المحتلة عام 67, ولكن الخيار السلمي يلزمه طرفان ملتزمان به بعكس الخيار الحربي الذي يفرضه أي طرف على الآخر.
وها هي إسرائيل تقدم ردها العملي -كي لا يتمكن عربي واحد من زعم أنه خدع بمعسول قول إن وعد أو رسائل تطمينات- على المبادرة العربية للسلام بإعادة اجتياح الضفة المحتلة عام 67 وقتل واعتقال عشرات الفلسطينيين.
ويأتي هذا أيضاً في حين يتصدر المفاوضات الفلسطينية مع إسرائيل ملف تبادل الأسرى الذي هو في حقيقته مبادلة "جندي" أسير واحد بأكثر من ألف أسير وأسيرة مدنيين منهم أطفال وسياسيون قياديون منتخبون, فيما يقبع في سجون الاحتلال ما يزيد على عشرة آلاف أسير فلسطيني.
والقيام بمزيد من عمليات الأسر لفلسطينيين يبدو هنا وكأنه تحوط إسرائيلي لملء "شواغر" من سيطلق سراحهم في الصفقة التي تماطل فيها لتكرس صورة عالمية مفادها: الجندي الإسرائيلي المحتل يساوي ألفا وأربعمائة فلسطيني جلهم من الأطفال والنساء!!
تصنيف جديد وخاص لحقوق الإنسان سيحكم كامل توابع وتفاصيل التطبيع الذي سيلي السلام الموعود في المبادرة العربية, تبدو معه الحرب أكثر رحمة وليس فقط أكثر عدالة!!
أما رفض إسرائيل المطلق لحق العودة, فقد زادت عليه مطالبتها الدول العربية بالاعتراف بها مسبقاً وقبل الخوض في أي حلول كدولة قومية لليهود.
أي في تجاوز رفض حق العودة إلى التمهيد للترانسفير. وترفق بهذا طلبها لتطبيع يفتح أبواب العالم العربي لها في حين هي تلقي بأبناء فلسطين خارج وطنهم.
ومثل هذا الانفتاح من جانب واحد ليس مجرد فصل عنصري, بل هو فصل لأغراض ضمان الهيمنة لجهة والإلحاق للجهة الأخرى, أي أنه الاستعمار بصيغته الكولونيالية التي سادت ما قبل القرن العشرين ولم يتبق منها في القرن المنصرم سوى نماذج محدودة منها جنوب أفريقيا.
والدليل على أن القرن الماضي لم يعد يتقبل تلك الصيغة من الاستعمار, هو وقوف العالم كله -في سياساته المعلنة على الأقل- ضد حكومة جنوب أفريقيا البيضاء, وفرض المجتمع الدولي عليها أشكالا من العقوبات والحصار أهمها منع تصدير السلاح إليها حتى تتخلى عن سياسات الفصل والهيمنة تلك.
ولكن السبب الرئيس لوقفة العالم تلك لم يكن صحوة ذاتية للضمير العالمي, بل نتيجة نضال السكان الأصليين في جنوب أفريقيا, المدعوم بنضال شعوب القارة السوداء قاطبة. وهو ما يفرض علينا وقفة مقارنة بما يجري عندنا الآن, وبالذات في إطار "المبادرة العربية" موضوع مقالتنا.
فالتحركات الأولى للدولتين الموفدتين من القمة العربية لنقل المبادرة إلى حكومة إسرائيل, استجلبت عليهما غضب عدد من الفصائل والتنظيمات الفلسطينية الرئيسة, وجزء غير يسير من الشارع الفلسطيني المحسوب أو غير المحسوب على تلك الفصائل.
وهو غضب يعود جزء كبير منه, وهنا المفارقة, لذات العوامل التي جعلت القمة العربية توكل مهمة حمل المبادرة إلى العدو إلى هاتين الدولتين, وهي أنهما عقدتا اتفاقات ثنائية مع إسرائيل وتطبعان معها.
فالشارع الفلسطيني, ومن وراءه العربي, يعتقد أن وقف هذا التطبيع هو إحدى أهم وسائل الضغط على إسرائيل في هذه المرحلة, هذا إن لم يحمّل التطبيع وزر هذه المرحلة ابتداء.
وإذا كان الموفدان اختارا فهم هذا التكليف العربي على أنه دور تفاوضي, أو على الأقل دور يسمح باستفاضة في الشرح أو بشيء من المبادرة (مع أن توضيحات الأمين العام للجامعة العربية ووزير الخارجية السعودي أكدتا أن التفاوض سيجري عبر لجنة عربية أخرى موسعة إن قبلت إسرائيل شروط المبادرة كما هي), فإن ما فهمه الشارع السياسي منه هو أنه تكليف في حدود التبليغ الرسمي الذي يتوجب في السياسة كما في القضاء.
"
إذا كانت مبادرة السلام هي نوعا من التضامن النضالي العربي مع الشعب الفلسطيني, فإن المبادرة التي وقعت في تربة غنية بالانقسامات والاستقطابات وانعدام الثقة البينية العربية، بدأت تثمر عكس هذا المأمول منها
"
مع أن الرسالة وصلت عبر الإعلام قبل أن يغادر المؤتمرون قصر المؤتمرات في الرياض, فكان تكليف من سبق وطبع لأن بقية الدول العربية حريصة على ألا تفعل ذلك, ليس مقابل المطروح حاليا على الأقل.
وهذا يتفق مع ما فهمه المرسل إليه أيضا, لكون الرد جاء بالرفض دون انتظار أي وفد ودونما حاجة لتوضيح, إضافة إلى أن وزيرة الخارجية الإسرائيلية قالت إنها لا تريد وفوداً من الأردن ومصر, بل من السعودية, ولم تضف "ومن سوريا" لدواع تتعلق بالموقف التفاوضي, لا أكثر وبعدهما تلي قائمة بمن لم يطبع بعد!!
وهذه كلها خلفيات وشكوك وسوء فهم متبادلة متشابكة أتقنت إسرائيل استثمارها عبر تصريحات أو تسريبات إعلامية, لا بد أن نعترف أنها أودت بما كان يؤمل من المبادرة من إيجاد حالة إجماع أو توافق عربي, أو إيحاء بأي منهما.
ولكن تسريبات الصحفيين لا يعول على مصداقيتها كلياً, وبالمقابل فإن ما يكتبه أو يقوله أصحاب الأقلام والمكانة الفكرية الاعتبارية التي تتجاوز التراشق بورق يلقى في سلة المهملات مع آخر النهار, هو أمر آخر يوزن بوزن صاحب المكانة الاعتبارية تلك.
وهذا يوقفنا عند تصريح للأديب الإسرائيلي المعروف, عاموس عوزي, الذي يكشف ما هو أهم وأخطر من أي دور مساند يمكن أن تقوم به أو تخل به هذه الدولة العربية أو تلك, وهو دور صاحب الشأن في حق العودة، أو هو -بصورة أدق- دور من يزعم أنه صاحب شأن في شأن غير قابل للتجيير ولا يجوز فيه تنازل بتوكيل سياسي تحت أي مسمى.
ففي بداية عهد أبو مازن وعند إطلاق خارطة الطريق في مدينة العقبة, جاء الخطاب الفلسطيني مكرراً لمقولات المعاناة اليهودية, مع أنه لا شأن للفلسطينيين بما جرى أو لم يجر في الهولوكوست, ولكن الخطاب خلا بالمقابل من أي ذكر لحق العودة للاجئين الذين تسببت إسرائيل في معاناتهم.
حينها برر السيد نبيل عمرو ما جرى بأن الخطابين, الفلسطيني والأردني, كانا مشروطين بنصهما مقابل قبول إعلان الخارطة التي تحفظت إسرائيل على كل ما هو ذو أهمية فيها, وقال إن الأمر كان: "تسديد فواتير", ولكن أحدا لم يوضح لنا, فواتير من وماذا هذه التي دفعت من الحقوق غير القابلة للتصرف لشعب بأسره!!
هذا كان في بواكير عهد أبو مازن. ولكن الأمر يبدو أبعد, وبالتالي أكثر إقلاقاً. فما كشفه عاموس عوزي جرى قبل ذلك وفي خريف عام 2003 تحديداً, وما كشفه يتعلق بمجريات لقاء عقد بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في الجانب الأردني من البحر الميت.
فعوزي الذي حضر اللقاء قال إنه "فوجئ" بتجاوز الطرفين للقضايا الحساسة, وفي مقدمتها حق العودة الذي أثاره الجانب الفلسطيني ولكنه لم يظهر في الوثيقة الصادرة عن اللقاء.
وبدلاً منه ظهر اعتراف فلسطيني "لحق الشعب اليهودي في وطنه وإقامة دولة مستقلة على هذه الأرض, أرض إسرائيل". وكشف النقاب عن أن مفاوضات سرية استمرت لعامين أوصلت لهذه اللحظة التي قبل فيها الجانب الفلسطيني "بشكل تعاقدي ونهائي وقطعي أنه لا يملك الآن ولا في المستقبل أي مطالب ضد إسرائيل"!!
وحسب عوزي , شارك في هذا اللقاء عن الجانب الفلسطيني عبد القادر الحسيني ونبيل قسيس وسمير الرنتيسي وهشام عبد الرازق الذي أصبح وزير شؤون السجناء في السلطة الفلسطينية, وأخيراً وليس آخراً, ياسر عبد ربه الذي لا نستطيع أن نقول إنه "مهندس" مؤتمر جنيف, لكون من قاموا بالهندسة ظهروا ضيوفاً عند عبد ربه الذي أوكل إليه دور المضيف على المسرح في المشهد "الحميم" الذي لا ينسى !!
ولكن هذا المشهد كان مجرد خاتمة مسرحية لما تم في المؤتمر الذي عقد -مثله مثل أوسلو واتفاقية أبو مازن بيلين- من وراء ظهر الشعب الفلسطيني, وأثار سخطه لأسباب عدة, منها التفريط في حق العودة!!
والآن, إذ يتقافز عدد من الذين نصبتهم أوسلو ووادي عربة سياسيين دونما تأهيل أو تخويل شعبي أو تمثيل سياسي لأي قطاع, لعقد سلاسل مؤتمرات على شاكلة "مؤتمر جنيف", ينبغي التوقف عند من يسدد الفواتير ولمن ومن حقوق من, في مفترق الطرق الخطير هذا.
وبدلاً من حمل القادة العرب صليب حق العودة في مؤتمرات القمة العربية, في حين يفرط فيه الأقربون في مؤتمرات دولية لا نعرف من عقدها ولا سمة من حضرها, قد يكون الأجدى وضع هذا الثقل العربي المهم وراء جهد واحد داخلي ومقدور عليه, وهو إعادة انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني ليعود ممثلاً حقيقياً للشعب الفلسطيني بأكمله, من هم في الداخل ومن هم في الشتات وإعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية, المخولة وحدها (حسب قرارات القمم العربية وحسب أوسلو ذاتها) بالتوقيع على اتفاقيات الحل النهائي, لتصبح ممثلة لكافة قوى وشرائح الشعب الفلسطيني.
وهذا قرار تكرر الاتفاق عليه وتكررت مماطلة السلطة الفلسطينية في تنفيذه منذ أيام المرحوم أبو عمار, وهو أهم بند في اتفاقية مكة وأهم ضامن بألا يتصرف في حق العودة غير أصحابه!!