--------------------------------------------------------------------------------
أصل التسمية :
عُرفت "فلسطين" منذ القدم بأرض "كنعان"، ولعلَّ أقدم ذكر ورد لها، هو الذي جاء على مسلة الملك "أدريمي" ملك "الآلاخ"- تل العطشانة- في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، كما وردكذلك في تقارير أحد القادة العسكريين لدى ملك "ماري".
أصل كلمة "فلسطين"- كما وردت في بعض الآثار الآشورية في عهد الملك الآشوري "أدديزاري الثالث" نحو عام (800 ق.م )- هو "فلستيا"، فقد وُجِدَ محفورًا على مسلته أن قواته تمكنت منإخضاع "فلستو" palastu في السنة الخامسة من حكمه، وأجبرت أهلها على دفع الضريبة.
ويذكر المؤرخاليوناني"هيرودوتس" Herodotus أن أصل التسمية "بالستاين" يرجع إلى أصول آرامية، كمااستعمل هذه التسمية عددُُ من المؤرخين الرومان من أمثال "أجاثار شيدس"Agathar chides و"سترابو"Strabo و"ديو دوروس" Diodoru، وتطلق هذه التسمية أحيانًا على الجزءالجنوبي من "سوريا" أو "سوريا الفلسطينية" بجوار "فينيثيا" وحتى حدود "مصر".
وفي العهدالروماني أصبح اسم "فلسطين" يُطْلَقُ على جميع الأرض المقدسة، وصار اسمًا رسميًّالها منذ عهد "هدريان" Hadrian، وقد انتشر استعمال هذا الاسم في الكنيسة المسيحيةعلى نطاق واسع، وكان يشار إليه دائمًا في تقارير الحجاج المسيحيين. أما في العهدالإسلامي، فقد كانت "فلسطين" جزءًا من "بلاد الشام".
فلسطين قبل التاريخ :
كانت "فلسطين" مغمورة بالمياه وظلتلملايين السنين مغمورةً تحت المياه، كجرف للقارة بعد الشاطئ مباشرة، ومع الارتفاع البطيء لرواسب الجرف عبر ملايين أخرى من السنين بدأت ترتفع تدريجيًّا عن مستوى سطحالبحر، حتى وصلت إلى حدودها الحالية قبل حوالي مليوني سنة على وجه التقريب.
كانت هناك بحيرة كبيرة، أو خليج ممتد من "البحرالمتوسط" إلى "وادي الأردن"،وقد انكمشت تلك البحيرة حتى صارت في حجم "البحر الميت" ثم أخذت في التناقص بعدذلك.
وتتمتع "فلسطين" منذ الأزل بموقع متميز، كما حباها الله أرضًا خصبة، ومناخًا معتدلاً متميِّزًا،وهذه كلها هي روافد الحضارة وأسباب الاستقرار الذي يصنع الحضارة والعمران، فقدساعدت خصوبة أرض فلسطين، وموقعها المتميز على وجود الإنسان فيها منذ أقدم العصور،وهيَّأ لها أن تقوم بدور بارز في عملية الاتصال الحضاري بين المناطق المختلفة فيالعالم؛ وذلك بحكم موقعها المتوسط منه، كما كان ذلك من أهم الأسباب التي ساعدت علىكتابة تاريخها منذ القدم.
دلت الحفريات الأثرية، التي اكتشفت على أرض "فلسطين"، على وجود بعض الهياكل العظمية للإنسان القديم على أرض "فلسطين"، وهو ما يدل على وجود حياة بشرية مبكرة في هذا الجزء منالعالم منذ وقت مبكر وكان هؤلاء الأسلاف يعيشون حياة بدائية،ويعملون بالصيد، ولم يعرفوا حياة الاستقرار بالمعنى المفهوم، وإنما كانوا يعيشون متنقلين؛ سعيًا وراء قطعان الحيوانات المختلفة.
وقد تميَّزتالفترة الثالثة من العصر الحجري بظهور نوع من التطور في حياة وأنماط معيشة الإنسانالبدائي، كما بدأ يطور أساليب صيده، واستخدام أدواته المصنوعة من الصوان، ولقد تمالعثور على عدد من الحفريات التي تمثل الحياة البشرية الأولى للإنسان داخل بعضالكهوف في "فلسطين"، ومنها كهف "الأميرة" و"عرق الأحمر" و"كبارة" و"الواد". كماعُثر كذلك على بعض الأدوات البدائية البسيطة التي كان يستعملها في هذه الفترة فيمواقع أخرى في "صحراء النقب"، وبالرغم من أن الإنسان في هذه المرحلة كان لا يزاليعيش على الصيد والقنص وجمع الثمار، فإن هذه المرحلة تمثل بداية التجمعات البشريةالتي أصبحت تشكل أنماطًا معيشية متطورة من حياة البشر على أرض "فلسطين".
ثم ما لبث الإنسان أن تحول من مرحلة الجمع إلى مرحلة الإنتاج، فجدَّ في البحث عن مواطن المياه،واستقرَّ حولها، وبدأ يعرف نوعًا من حياة الاستقرار بعد أن تحوَّل إلى الزراعة،فبدأ يزرع بعض النباتات، كالقمح والشعير، واتجه كذلك إلى صيد الحيوانات البحرية،وأصبح منتجًا لقُوْتِه، وتميزت الفترة الأخيرة من العصر الحجري بحدوث تغيير واضح فيوسائل المعيشة والإنتاج، كما حدث تغيير في أنماط البناء، وتطورت الأدوات التييستخدمها الإنسان القديم، سواء في الصيد والزراعة أو في البناء.
في وادي النطوف القريب من قرية شقبا غربي رام الله مثلاً، عثر المنقبون على مخلفات يعود بعضها للمرحلة الثانية من العصر الحجري القديم 70.000-35.000 ق.م، وأحدثها يعود إلى العصر الحجري الأوسط 14.000-8.000 ق.م، أو الحضارة النطوفية نسبة إلى هذا الوادي. اكتشفت هذه الحضارة لأول مرة عام 1928م على يد المنقبة دوروثي غارود في الكهف والمعروف ب"مغارة شقبا"، وهي تعتبر الخطوة الأولى للإنسان على طريق بناء أول مجتمعات زراعية في التاريخ. استمر العصر الحجري الوسيط نحو ستة آلاف عام، وسكن فيه الناس في الكهوف والمغاور، إلا إنهم تمكنوا خلاله من زيادة عدد أدواتهم الحجرية وتصغير حجمها وتحسين صنعها بحيث أصبحت أكثر فعالية بالنسبة لأغراضهم.
زاول إنسان هذا العصر مهن الالتقاط والجمع وصيد الحيوانات البرية وأيضاً الأسماك في الوديان كوادي النطوف ووادي خريطون جنوب شرق بيت لحم والتي كانت مياههما غزيرة فيما مضى، رغم أنها جدباء اليوم. حصلت الثورة الأساسية في العصر الحجري بين عامي 10.000و 8000 قبل الميلاد، وهذه الفترة تشكل مرحلة انتقالية بين العصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث، أو بعبارة أخرى بين نمط التنقل والتجول من أجل الصيد والتقاط القوات إلى نوع من حياة الاستقرار حيث أصبح الإنسان منتجاً لقوته بنفسه وجد في أحد كهوف الكرمل العائدة لهذا العصر جمجمة كلب كبير يستدل منها أن الإنسان ابتدأ في نهاية العصر الحجري الوسيط في تدجين الحيوانات. والآثار التي عثر عليها في أريحا والعائدة لأواخر هذا العصر تدل على تدجين البقر والماعز والغنم والخنازير. باهتداء الناس إلى تدجين الحيوانات اضطروا للانتقال إلى نمط حياة جديد، وهو حياة البداوة والتنقل بقطعان ماشيتهم من مرعى إلى آخر، وهكذا أصبحوا رعاة بعد أن كانوا صيادين وجامعين لقوتهم.
عند بداية العصر الحجري الحديث (حوالي 8000 ق.م) دخل سكان فلسطين في مرحلة جديدة طوروا فيها مهاراتهم في الزراعة، وأصبحوا يتمتعون بنوع أعلى من الاستقرار، حتى أنهم بدءوا يطورون بعض المعتقدات الدينية والمفاهيم الفنية. يبدوا أن الناس في هذه الفترة كانوا يقدسون أسلافهم، حيث عثر على مجموعة من الجماجم المفصولة عن هياكلها العظمية في أريحا تعود إلى هذا العصر، كما أنهم عبدوا القمر لأنه أكثر نفعاً وتلطفاً من الشمس في بلاد حارة وجافة مثل فلسطين. عثر المنقبون في كهوف الكرمل على رسم لثور حفر بأدوات عظمية على قطعة من الحجر الطباشيري منحوتة على صورة رأس إنسان. تتمثل حضارة سكان فلسطين في هذا العصر بالأدوات الحجرية المصقولة وبالصحون الحجرية والهواوين والمداق والمناجل الصوانية المثبتة على قبضة خشبية، والتي يظن أنها كانت تستعمل لحصاد القمح. عثر المنقبون على الكثير من هذه الأدوات في مغارة شقبا وفي أريحا ومناطق أخرى. معظم الأدوات الصوانية في أريحا مصنوعة من مادة السبج (الأوبسديان) وهي مستوردة من بلاد الأناضول. ويستدل من هذه الأدوات على أن سكان فلسطين هم أول من مارس الزراعة في العالم. عهد الناس في هذا العصر بالمهنة الجديدة إلى نسائهم وأولادهم، أما الرجال فقد ظلوا منصرفين إلى أعمال الصيد والرعي والغزو. زرع السكان القمح والشعير والدخن، وهو نوع من الذرة، ثم زرعوا العنب والتين والزيتون وأنواعاً من الخضراوات.
عثرت عالمة الآثار البريطانية المشهورة "كاثلين كنيون" التي نقبت في تل السلطان في أريحا بين عامي 1952-1958 على مدينة متكاملة تعود لهذا العصر، واكتشفت أبنية عمومية من الحجارة يبلغ ارتفاع بعضها عشرة أمتار، وسوراً خارجياً به برج مستدير قطره 13 متراً يصعد إليه بإحدى وعشرين درجة. يعتبر سور أريحا وبرجها أقدم بناء حجري عثر عليه حتى الآن في العالم، ويعود تاريخ بنائهما إلى سنة 7000 ق. م. وبذلك استحقت أريحا عن حق لقب أقدم مدينة في العالم والبلد الذي شهد ظهور أول نواة لحكومة مركزية في التاريخ.
فهي أوَّل مركز لحضارة ما قبل الفخارفيالعصر الحجري الحديث، وهي أقدم مدينة اكْتُشِفَتْ حتى الآن، إذ يرجع تاريخها إلىنحو عشرة آلاف سنة، ففي "أريحا" تم اكتشاف أقدم بيوت ومعابد مستديمة معروفة حتىالآن كانت جدرانها من جواليص الطين، أو من الطوب اللبن المستدير الصغير الحجم.
فلسطين و فجر التاريخ " الثورة الزراعية الأولى :
مع انتهاء الألفالرابعة قبل الميلاد كان هناك تغيير واضح في النواحي الاقتصادية والاجتماعيةوالمعمارية في "فلسطين"، ولعل أكثر ما يميز هذه الفترة ظهور أعداد كبيرة من المدافنالمقطوعة في الصخر بفلسطين، وفي فترات لاحقة تم اكتشاف المعادن ومزجها، وتصنيعالأدوات والأواني منها، كذلك برزت المعابد الدينية في تلك الفترة، والتي بينتهاالمكتشفات الأثرية في العديد من مدن وقرى "فلسطين"، وعلى مستوى الصناعة والتجارة،فقد تطورت الحياة العمرانية، والتي تدل على نمو سكاني مع ارتفاع مستوى المعيشة،وتقدم نظام الزراعة.
وفي هذه الفترة تأسست الكثير من المدن المحصنة ذات الأسوار، ويلاحظ انتشار المدن المحصنة في جميعالمناطق الفلسطينية، ومنها المنطقة الساحلية و"مرج ابن عامر" وسلسلة الجبال الغربية، كما أصبح تأسيس المدن ومرافقها الدفاعية والعامة والسكنية يفرض شيئًا منالتخطيط المسبق.
وكان أوَّل من سكن " فلسطين" هم "الكنعانيون" و"الأموريون" العرب، الذين ينتسبون إلى قبيلة كبرى من "الساميين" من سكان "الجزيرة العربية"، وكانوا قد رحلوا إلى "الشام" في هجرات علىشكل موجات، عندما قلَّ المطر، وانتشر الجدب، خاصةً مع ازدياد عدد السكان، وضيقموارد الصحراء عن تلبية حاجات الأعداد المتزايدة من البشر، فنزل "الأموريون" داخلبلاد "الشام" وجنوبها الشرقي، بينما استوطن "الكنعانيون" ساحل بلاد "الشام" وجنوبهاالغربي و" فلسطين"، وتشير بعض التقديرات إلى أن الهجرة الأمورية- الكنعانية الشهيرةمن "الجزيرة العربية" قد حدثت في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد، غير أن بعضالباحثين يستنتجون أن "الكنعانيين" كانوا منذ بداية الألف الثالث مستقرين فيالبلاد، بينما يذهب باحثون آخرون إلى أن وجود "الكنعانيين" إنما يرجع إلى ما قبلسبعة آلاف سنة، وذلك من خلال تتبع الآثار في مدنهم القديمة، وأقدمها مدينة "أريحا" الباقية حتى اليوم، والتي تعتبر أقدم مدينة في العالم.
ويتضح، وفقًا للمكتشفات الأثرية في "فلسطين" و"العراق"، أن الكنعانيين هم أقدم الشعوب المعروفةعلى أرض "فلسطين"، فقد انتقلوا وفق أكثر التقديرات إلى بلاد "الشام" منذ الألف الرابعة قبل الميلاد.
و عرف منهم:
اليبوسيون: وقد أقاموا حول مدينة "القدس"، وهي تنسب إليهم في أصلتسميتها القديمة "يبوس"، وقد تأثرت "القدس" بحضارة "اليبوسيين"، وحظيت باهتمامهموعنايتهم، فحافظوا عليها، وحَصَّنُوها بسور عظيم، ودافعوا عنها ضدَّ الغزاةوالمهاجمين من اليهود وغيرهم.
العناقيون: وتمتد ديارهم من "القدس" إلى جنوبي "الخليل"، وقدأقام بعضهم في "غزة"، وهم الذين أسَّسوا مدينة "الخليل" والتي كانت تُسَمَّى "مدينةأربع".
الحويُّون: وقد أقاموا في المنطقة من"نابلس"حتى"جبل الشيخ"،وهمالذين أنشأوا قرية "بعاريم"التي تعرف اليوم باسم قرية"أبو غوش".
العمالقة: وقد أقاموا في جنوب"فلسطين"وفي "سيناء"،ونزلت جماعةمنهم بلاد "نابلس" وعمروها، وهناك جبل بها يُنْسَبُ إليهم هو"جبل العمالقة".
ومن أقدم المدن الكنعانية الباقية حتى اليوم:"أريحا"،و"أشدود"(أسدود)، و"أشقلون"(عسقلان)، و"بئرسبع"،و"بيت دجن"،و"بيت شان" (بيسان)، و"بيت لحم"،و"حلحول"، و"عكو"(عكا)،و"غزة"،و"المجدل"، و"يافي" (يافا)، وهناك أيضاً العديد من المدن والقرى منها ما بقي حتى اليوم ومنها ما اندثر،وقد كانت "شكيم"هي العاصمة الطبيعية لكنعان.
واشتهر"الكنعانيون"بالزراعةحيث إنها كانت المهنة الرئيسة للسكان،وقد عرفوا الحبوب بأنواعها،كالقمح والشعيروالعدس والبقول، كما زرعوا الأشجار المثمرة كالعنب والتين والرمان والنخيل والتفاحواللوز،ومارسوا الصناعة، وبرعوا في التعدين وصناعة الزجاج والخزف والفخار،واستعملوا لصنعه الدولاب الذي ما يزال يستخدم في كثير من القرى حتّضى اليوم،كمابرعوا في صناعة النسيج والثياب، وبرعوا كذلك في فنون العمارة، كماعُنِيَ"الكنعانيون" بالموسيقى وأولوها عناية كبيرة، واستخدموها كنوع من الطقوس فيعبادتهم، وقد اقتبسوا كثيراً من عناصر موسيقاهم من شعوب مختلفة توطنت الشرق الأدنى القديم، وكذلك تأثربهم كثير من الشعوب المحيطة بهم، مما أدَّى إلى انتشار ألحانهم وأدوات موسيقاهم بين تلك الشعوب.
وقد تكلم "الكنعانيون"لهجة خاصة بهم، مشتقة من اللغة العربية الأولى،ولكن بعد مدَّةٍ طويلةٍ من توطنهم وحكمهم في" فلسطين"حلَّت اللغة الآرامية ـ وهي لهجة عربية أخرى ـ محلا للغة الكنعانية، وقد ظلت تلك اللغة هي اللغة السائدة في "فلسطين" قرابة ألف عامٍ،حتى حلَّت محلها اللغة العربية الحديثة.
وقد ظلَّ "الكنعانيون" يحكمون "فلسطين" قرونًا طويلة، وشيدوا بها حضارة عظيمة تأثر بها كثيرمن الأمم والممالك المجاورة لهم، وكانت تلك الحضارة مصدر إشعاع لقرونٍ طويلة، حتىانهارت تلك الحضارة على يد الغزاة الفاتحين من "العبرانيين"الذين تمكنوا من هزيمة "الكنعانيين" إلا أن وجودهم على أرض "فلسطين" كان وجودًا عابرًا،فلم يحكموها إلابضع عشرات من السنين،ثُمَّ ما لبثت دولتهم أن انهارت،وزال كلُّ أثرٍ لها من الوجود